تنفيذ مبادرة الحضارة العالمية لتعزيز التبادل الثقافي والتعلم المتبادل بين الحضارتين الصينية والعربية          

تان بينغ، مدير المعارض الفنية في الصين
13
نوفمبر 2024 

السادة الضيوف …. الحضور الأفاضل
في البداية أودُّ أن أرحبَ بكم جميعًا، وأتوجه بالشكر إلى مُضيفِنا الكريم على تلك المقدمة التي تَفضَّل بها،. والآن، يَسُرني أنْ نَتشارك في  عملية رصد التأثير والتلاقي العميق  والتعلم المتبادل بين الحضارة الصينية والحضارة العربية تحت عنوان “تنفيذ المبادرة العالمية للحضارة لتعزيز التبادل والتعلم المتبادل بين الحضارتين الصينية والعربية“.

  1. أولاً: الفروقات والروابط بين الحضارة الصينية والحضارة العربية

كِلا الحضارتين العربية والصينية عميقتان وعريقتان، غنيتان بالمحتوى الفلسفي، وعمقٍ ثقافيّ وحيوية دائمة. وقبل أكثر من خمسة آلاف عامٍ، نشأت الحضارة الصينية في حوضي نهري يانغتسي والأصفر. واستمرت دون انقطاع ٍ، لقد كانت متنوعة ولكنها موحدة، منفتحة وشاملة، وتَبنَّتْ  الفلسفات الشرقية التي تدعو إلى الانسجام والتعايش، مُشكلَّةً ثقافاتٍ شرقية متميزة. إن الابتكارات مثل صناعة الورق، البارود، الطباعة، البوصلة، التقاويم الفلكية، الأفكار الفلسفية، ومفهوم الحكم القائم على احترام إرادة الشعوب، قد أثَّرتْ بشكلٍ كبير على العالم ودفعتهُ بقوةٍ نحو التقدم الحضاري.

وقد احتضن إقليم بلاد ما بين النهرين الحضارة البابلية القديمة، بينما ازدهرت الحضارة الإسلامية من القرن السادس إلى القرن الثاني عشر، مُقَدِمةً إسهاماتٍ عميقة في الفلسفة والهندسة المعمارية والفن، وشَكلَّتْ جسرًاً مُهمَّاً بين الثقافات الآسيوية والأوروبية، ولِعبت دورًا أساسيًا في النهضة الأوروبية.

ورغم وجود اختلافاتٍ كبيرة في الأصول التاريخية، والتقاليد العرقية، بالإضافة الثقافات الدينية، وأنماط الحياة بين الحضارتين العربية والصينية، إلا أنَّ لقاءاتهما المتبادلة أسفرت عن مسارٍ للتواصل السلمي تَميَّز بمبدأ “الجمال في التنوع”. إنَّ التفاعلات التاريخية بين الصين والعالم العربي متأصلة بعمق، سَهَّلتها طرق التجارة القديمة مثل طريق الحرير، طريق الشاي، طريق التوابل، وطريق اليشم، فضلًاً عن التجارة البحرية، حيث دخلَ الحرير الصيني والشاي والخزف والتكنولوجيا إلى المنطقة العربية، بينما وصلت المصنوعات الفضية والزجاجية والأحجار الكريمة والتحف الدينية من العرب إلى الصين. وقد جَلبتْ التجارة عبر طريق الحرير الازدهار لكلا الشعبين الصيني والعربي. في القرن الرابع عشر، زارَ الرَّحَّالة العربي ابن بطوطة الصين، وفي القرن الخامس عشر، زارَ المَلَّاح الصيني الشهير من أسرة مينغ، تشنغ خه، جدة ومكة والمدينة، مِمَّا شَكَّل رحلاتٍ بارزة في تاريخ التبادلات الصينية-العربية.

واليوم، تعتز الحضارتان العظميان بتواصلهما عَبرَ التاريخ وتواصلان الحفاظ على بريقهما في العصر الحديث. ومع تقدم مبادراتٍ مثل مبادرة الحزام والطريق، القمة الصينية-العربية، منتدى التعاون بين الصين والدول العربية، وحوار الحضارات الصينية-العربية، يتعمق التعاون بين الصين والدول العربية في مجالات الثقافة والتعليم والتكنولوجيا والصحة والتبادل بين الشعوب، وأصبحت الصين أكبر شريك تجاري للدول العربية. لا تزال موضوعات التعاون السلمي والانفتاح والشمولية والتعلم المتبادل وتحقيق المكاسب المتبادلة من الموضوعات الرئيسية للتفاعلات التاريخية بين الصين والعرب.

  1. ثانياً. الممارسات التنظيمية للمعارض حول التبادلات بين الحضارتين الصينية والإسلامية القديمة

في العام الماضي، وبتوصيةٍ من السفارة الصينية في الكويت وتحت إشراف ودعم إدارة التراث الثقافي الوطني في الصين، توصلت   AEC إلى تعاونٍ مع دار الآثار الإسلامية للمساعدة في تنظيم معرض التبادلات بين الحضارتين الصينية والإسلامية القديمة. يهدف المعرض إلى عرض بعض القطع الأثرية الثقافية الصينية من مجموعة المتحف، بالإضافة إلى قطع أثرية تُمَثِل المناطق الإسلامية التي تعكس تأثير الثقافة الصينية. هدفنا هو تعميق دراسة تاريخ التبادلات والتكامل بين الحضارتين العريقتين، الصينية والعربية، لعرض التأثير المتبادل بين الصين والدول العربية في الثقافة والفن والتكنولوجيا، ولإظهار الإسهامات الكبيرة للحضارتين الصينية والعربية في تطور الحضارة الإنسانية.

 يَنقسِمُ المعرض إلى أربعة أجزاءٍ.

أولًا، يُقدم المدخل المحتوى الأساسي لموقع الصين الجغرافي، الثقافات العرقية، والسياق التاريخي.و يَستخدم شكل التسلسل الزمني التاريخي الصيني لعرض صور ٍ لمقتنياتٍ ثقافية تمثيلية من فترات تاريخية مختلفة في الصين، لتعميق فهم الجمهور الكويتي للصين.

الفصل الأول بعنوان “صعود الرياح الطويلة – التبادلات المبكرة بين الحضارتين الصينية والإسلامية”. منذ حوالي خمسة إلى ستة آلاف عام ٍ، ربما كان هناك طريق اليشم يَتمحور حول هوتان في شينجيانغ، ممتدًاً على طول ممر خه شي أو المراعي الشمالية إلى السهول الوسطى. في فترات مختلفة من غرب آسيا، كان هناك أيضًا طريق السبج من الأناضول إلى فارس و**”طريق اللازورد”** من أفغانستان مرورًاً بفارس وبلاد ما بين النهرين إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط. أسَّسَت هذه الطرق التجارية المبكرة أساسًاً للتبادل بين الحضارتين الصينية والإسلامية القديمة. وقد أسهمَ طريق الحرير، الذي يربط الصين بمنطقة غرب آسيا، في إنشاء ظروف للتبادل المتبادل للبضائع وفتح أيضًاً طريقًاً هامًاً للتبادل الثقافي بين المنطقتين.

تُعدُّ الصين أول دولةٍ في العالم تُنتج وتَستخدم الحرير. بمجرد أن تمَّ تقديم الحرير الصيني الناعم والمبهر إلى الغرب، اجتذب الناس في غرب آسيا وأوروبا للبحث عنه بشغف. ومنذ عهد أسرة هان، تَبنَّت الصين تقنيات النسج من غرب آسيا على نطاقٍ واسعٍ، مِمَّا دفعَ صناعة الحرير المحلية إلى آفاقٍ جديدة؛ كما دَمَجتْ منطقة غرب آسيا الحرير الصيني في مهارات النسج المحليَّة، مِمَّا أوجدَ أشكالًاً جديدة من نسج الحرير. يتضح التبادل الثقافي بين الصين والعالم الإسلامي جليًا في هذه الخيوط الحريرية.

يُعد الزجاج من أقدم المواد التي صنعها الإنسان، ويُعرف باسم ليولي في الصين القديمة، وهو أيضًا من أكثر العناصر التجارية شعبية في التاريخ. مع افتتاح طريق الحرير، سهَّلَ هذا الاصطدام والتفاعل بين الثقافات الشرقية والغربية. كانت الحاويات الزجاجية والزخارف من بين العناصر التجارية الرئيسية التي تمَّ استيرادها من الغرب إلى الصين، وفي الوقت ذاته، انتقلت تقنية الزجاج تدريجيًاً شرقًاً إلى الصين.

 

الفصل الثاني بعنوان إشعاع الشرق والغرب – التبادلات بين الحضارتين الصينية والإسلامية من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر“.

في عام 618 م، أسَّست أسرة تانغ حُكمَها في الطرف الشرقي من قارة أوراسيا. تميزت إمبراطورية تانغ بالتنوير السياسي، والازدهار الاقتصادي، والبذخ الثقافي، والوحدة متعددة الأعراق، والتبادل الخارجي النشط، مِمَّا جعلها واحدة من أكثرِ الأسر ازدهارًاً في تاريخ الصين. كان لها تأثير عميق على التطور الاجتماعي والتاريخي لليابان والعديد من بلدان غرب آسيا وأوروبا. وفي نفس الفترة التاريخية، أدى التحول الديني الذي قاده النبي محمد إلى تأسيسِ الإمبراطورية العربية، التي امتدت عَبرَ ثلاثِ قاراتٍ – آسيا، وأفريقيا، وأوروبا. وقد دَخلتْ التبادلات بين البلدين في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها مرحلة تاريخية جديدة.

تُعدُّ صناعة الورق واحدة من الاختراعات الأربعة العظيمة في الصين القديمة. حيث سَجَّلَ العَالِم العربيّ البيروني (973-1048) في كتابهِ “الهند”: “صناعة الورق نشأت في الصين… وقد قامَ أسرى الحرب الصينيون بإدخال صناعة الورق إلى سمرقند، وسُرعان ما بدأت العديد من الأماكن في صناعة الورق لتلبية متطلبات العصر.” وبعد أنْ تمَّ إدخال صناعة الورق إلى المنطقة العربية، حَلَّت محل الرق الباهظ الثمن. لاحقًاً، ومع توسع تأثير الإمبراطورية العربية، انتشرت تِقنية صناعة الورق إلى شمال أفريقيا.

التانغ سانساي، نوع من الفخّار المُزَجَّج منخفض الحرارة الذي ازدهرَ خلال فترة أسرة تانغ، يشتهر بتعدد ألوانه الزاهية. تشمل الألوان الشائعة في الطلاء الأصفر والأخضر والأبيض، وإضافة الرصاص كمساعد انصهار في الطلاء تخلق تأثيرًاً حيويًاً ومتدفقًاً أثناء الحرق، مما يَنتج عنه مَظهر رائع وحيوي. كان هذا الفخّار ثمينًاً للغاية وتمَّ تصديره إلى مناطق مثل اليابان وكوريا وبلاد فارس، حيث ألهَمّ التقليد، مِمَّا أدى إلى ظهور نارا سانساي في اليابان، وسيلا سانساي في كوريا، والفارسي سانساي. وقد ازدهرَ الفخّار المُزجَّج الثلاثي الألوان في العالم الإسلامي، وكان الفارسي سانساي شائعًاً خلال القرنين التاسع إلى الحادي عشر في ظل الخلافة العباسية، وكان يَتمُّ إنتاجه بشكلٍ رئيسيّ في العراق وإيران.

ازدهرت صناعة الفخّار المُزَجَّج الثلاثي الألوان في العالم الإسلامي. وبالمثل، ظهرت العديد من القطع الذهبية والفضية بتصاميم ذات طابع إسلامي في الشوارع والأسواق. تُظهر تنوعات التانغ سانساي مدى تأثير تصاميم الحُلي الإسلامية من الذهب والفضة على السيراميك الصيني. تحتوي العديد من قطع الفخّار المُزَجَّج الثلاثي الألوان على أنماطٍ تَتضمن عناصر إسلامية.

الرايتون، غالبًاً ما كان يَتَّخذ شكل قرن الحيوان، ويعمل كـ قُمعٍ لـ صَبِّ السوائل أثناء الطقوس والاحتفالات. كان هذا النوع من الأواني الشرب شائعًاً في آسيا الوسطى والغربية، لا سِيما في بلاد فارس الساسانية (224-651 م)، وظهر أيضًاً في الجداريات في هذه المناطق. الكأس المصنوع من العقيق والمُطعَّم بالذهب برأس حيوان، الذي تمَّ اكتشافه في مخبأ من أسرة تانغ في هوجياكون، شنشي، الصين، هو نتيجة دمج الرايتون مع الثقافة الصينية. تأثَّرت ثقافة اليشم الصينية في العالم الإسلامي واستخدمت اليشم لصناعة الرايتون، بالإضافة إلى الذهب والفضة والعقيق واللازورد، مِمَّا منحَ هذه الأواني سحرًاً فريدًاً. تُمثل هذه الأواني دليلًاً على التبادل الثقافي الغني واندماج الحضارتين الصينية والإسلامية.

المرايا النحاسية كانت تُستخدم على نطاقٍ واسعٍ كمواد تجارية في آسيا القديمة. وكل من الصين والمنطقة العربية لهما تقليد طويل في إنتاج المرايا النحاسية. بدأت المرايا النحاسية الصينية في الانتشار غربًاً خلال فترة الممالك المتحاربة. وخلال أسرة هان، تمَّ توزيع أنواع مختلفة من المرايا النحاسية الصينية في آسيا الوسطى وغرب آسيا وحتى السواحل الشرقية للبحر الأسود. ظهرت تقليداتٍ محلية أينما تمَّ تقديم المرايا النحاسية الصينية. خلال فترة أسرة تانغ، تضمنت المرايا النحاسية الصينية عناصر من الثقافات الساسانية والصغدية، مما أدى إلى زيادة الأنماط الجديدة مثل المرايا التي تحتوي على تصميمات الحيوانات والزخارف، بالإضافة إلى المرايا التي تحتوي على نقوش وأنماطٍ زَهرية مُدوَّرة. استمرت هذه المرايا النحاسية الصينية، التي دَمَجتْ الأساليب الشرقية والغربية، في الانتقال إلى الغرب عَبرَ طريق الحرير.

الفصل الثالث بعنوان “التكامل المتناغم بين السماء والبحر – التبادل بين الحضارتين الصينية والإسلامية من القرن الثالث عشر إلى القرن التاسع عشر“.

يعتبر القرن الثالث عشر فترة مُهمَّة لتبادلات الصين والعرب. في عام 1258، احْتلَّ جيش هولاكو خان بغداد؛ وفي عام 1276، دخلت قوات بو’ورشو العاصمة الجنوبية لسلالة سونغ، هانغتشو. كانت كل من الصين والعالم الإسلامي تحت حكم الإمبراطورية المغولية، مِمَّا أدى إلى زيادة التبادلات في السكان والثقافة والاقتصاد.
الخزف الأزرق والأبيض هو نتاج الجمع بين تقنيات صناعة الخزف المتقدمة في الصين والأصباغ والحساسيات الجمالية في غرب آسيا. منذ إنشائه الأول خلال سلالة تانغ وإحيائه في سلالة يوان، وصولًا إلى تطويره الكبير في سلالتي مينغ وتشينغ، حازَ الخزف الأزرق والأبيض على شهرةِ عالمية. تُجسد صناعة الخزف الأزرق والأبيض رُوح الانفتاح، والتعلم الجاد، والاستكشاف المبتكر للشعب الصيني القديم. عندما تمَّ تصدير الخزف الصيني إلى العالم الإسلامي، تَكيَّفَ أيضًا مع تفضيلات أسلوب الحياة الإسلامية. يُفضل سُكان غرب آسيا استخدام الأطباق الكبيرة والجرار، كما كانوا يَميلون إلى اللون الأزرق، مِمَّا ساهمَ في حُبهم للخزف الأزرق والأبيض. وبالتالي، كانت الأفران في جينغدتشن خلال فترتي يوان ومينغ تنتج غالبًا قطع خزف أزرق وأبيض كبيرة لتلبية احتياجات المستهلكين في العالم الإسلامي.

لم يقتصر السيراميك الغربي الآسيوي على تقليد تقنية سانكاي التانغ بنجاح ٍ، مثل سانكاي الفارسي، بل وصلتْ إعادة إنتاج مواضيع الزخرفة الصينية وأنماط التركيب إلى مستوىً مذهلٍ. في القرن الثالث عشر، ظهرت أنماط صينية تقليدية مثل زخارف الطيور الفينيقية على الطوب السيراميكي المُزّجَّج المعماري المُنتَج في غرب آسيا، والتي تتطابق مع زخارف الطيور الفينيقية في السيراميك الصيني. غالبًا ما كانت زخارف الطيور الفينيقية الموجودة على الطوب السيراميكي الغربي الآسيوي تَتداخل مع الأزهار والنباتات. لم تظهر مثل هذه الصور الفينيقية على الفخّار الغربي الآسيوي من قبل ٍ، ويَنبغي اعتبار أنَّ هنالك زخارفٍ تأثرت بزخارف الطيور الفينيقية الصينية.

تَتمتع فنون نحت اليشم الإسلامية بتاريخ ٍ طويل وعميق. سواءَ كانت في الإمبراطورية التيمورية، أو سلالة الصفويين في فارس، أو الإمبراطورية العثمانية التركية، فقد بُنِيَتْ جميعها على هذه التقليد من نَحتِ الحجارة الصلبة، مستفيدةً من الخصائص الفريدة لليشم لتطوير أساليبها المحلية في نحتِ اليشم. ظَهرتْ قطع اليشم ذات الطراز الصيني في أيدي الحرفيين الإسلاميين، بينما أصبحت قطع اليشم ذات الطراز الإسلامي تدريجيًا شائعة في الصين. استلهمَ إدخال الأحجار الملونة على اليشم في سلالة مينغ من الممارسة الإسلامية في إدخال الذهب والأحجار الكريمة على سطح اليشم. بعد سلالة تشينغ، أصبح إدخال الأحجار الكريمة مثل الفيروز والمرجان واليشم الأخضر والعقيق، وحتى قطع اليشم المنقوشة بأنماطٍ لتشكيل تَصاميم متنوعة من الأزهار والطيور والفواكه، أكثر شيوعًا.
تقع الصين في الطرف الشرقي لطريق الحرير البحري. لآلاف السنين، كان طريق الحرير البحري يَنطلق من الساحل الجنوبي الشرقي للصين، مارًا عَبرَ بحر الصين الشرقي، وبحر الصين الجنوبي، والمحيط الهندي، ليصلَ إلى الخليج العربي والمناطق الساحلية في البحر الأبيض المتوسط. مع التطور خلال سلالتي سوي وتانغ، وصلتْ حركة المرور البحرية والتجارة الاقتصادية في الصين إلى ذُروتها خلال سلالتي سونغ ويوان. كانت الكويت ميناءً مُهمًا للتجارة الخارجية خلال فترة الإمبراطورية العربية. بعد القرن الخامس عشر، ومع دخول العالم عصر الاستكشاف، تمَّ إدماج الصين ومنطقة الخليج العربي في النظام الجديد للتجارة البحرية العالمية، حيث كان الخزف الأزرق والأبيض من جينغدتشن يُشحن بكمياتٍ كبيرة إلى الموانئ على طول الخليج العربي.
خلال عهد يونغلي في سلالة مينغ، أرسلَ الإمبراطور تشنغزو، زهو دي، تشنغ خه في سبع رحلاتٍ إلى البحار الغربية، مِمَّا سهل إنجازًا غير مسبوق ٍ في تاريخ الملاحة العالمية. وصلتْ رحلات تشنغ خه السبع إلى مناطق مثل جنوب شرق آسيا، والمحيط الهندي، والخليج العربي، والدول الساحلية في شرق إفريقيا. كانت السفن التجارية في سلالة مينغ تنقل الحرير الصيني، والخزف، والشاي، والأدوات المطلية، والمسك، والمنتجات المعدنية، والكتب إلى الخارج، في تبادل مع التوابل المحلية، والمواد الطبية، والحيوانات والنباتات، والمجوهرات، والمواد الخام اللازمة لإنتاج الخزف، وغيرها من السلع. ازدهرت التجارة الرسمية الخارجية في هذا الوقت، مِمَّا عَززَ أيضًا التبادلات المتعددة الأوجه في الاقتصاد، والسياسة، والثقافة بين الشرق والغرب.
بين القرنين الثالث عشر والتاسع عشر، بينما كان الخزف الصيني واليشم يُحققان شهرةً في العالم الإسلامي، كانت الثقافة الإسلامية تؤثر أيضًا ببطءٍ على الصين. خلال سلالتي يوان ومينغ، شَغلَ العديد من المسؤولين المسلمين مناصب حكومية، وأداروا شؤون الدولة، وشاركوا في البناء الثقافي.

 اندمجت الثقافة الإسلامية مع الثقافة التقليدية الصينية الكونفوشيوسية، مِمَّا خلقَ توليفة ثقافية فريدة. لم يُثر هذا الدمج الثقافي فقط أغنى معاني الثقافة الصينية، بل أسهمَ أيضًا في تعزيز التبادلات الودّيَّة بين الصين والعالم الإسلامي.

III. ثالثًا: رؤى من طريق الحرير وتاريخ تبادلات الحضارة الصينية العربية.

أولًا، إنَّ التطور التاريخي للحضارات الصينية والعربية يُؤسس نموذجًا لتفاعل الحضارات العالمية المتنوعة، يَحتفل كل منها بجَمَال الآخر بينما يَتشاركان التقدير المتبادل. والعلاقة بين الحضارتين العربية والصينية تُجسد التناغم في التنوع، المُتجذر في احترام الاختلافات، وتقبل التنوع، والتعلم المتبادل، والتقدم الجماعي. لمْ تُعزز هذه التبادلات كُلًا من الحضارتين فحسب، بل تركتْ أيضًا علامةً بارزةً في تاريخ الحضارة العالمية.
ثانيًا، إن التَعلمَّ المتبادل بين الحضارات يُشكل قوة دافعة لا تنضب للتقدم البشري. وقد عَبّرَ الرئيس الصيني شي جين بينغ عن آرائهِ حول الحضارة من منظور التناغم العالمي والتقدم البشري في مناسباتٍ مختلفة. في مارس 2014، أكدَّ الرئيس شي جين بينغ في منظمة اليونسكو أنَّ الحضارات ملونة، ومتساوية، وشاملة، مُشددًا على أنَّ التبادل والتعلم المتبادل يُثري الحضارات. وأبرز أنَّ التبادل والتعلُم المتبادل بين الحضارات هو قوة حيوية لدفع التقدم البشري وتعزيز السلام العالمي، مِمَّا حازَ على دعم قوي في المجتمع الدولي. في يونيو 2018، في قمة منظمة شانغهاي للتعاون في تشينغداو، دعا إلى رؤيةٍ حضارية قائمة على المساواة، والتعلم المتبادل، والحوار، والشمولية، مُقترحًا مَسارًا للتعايش السلمي بين الحضارات. في مارس 2023، قَدَّم المبادرة العالمية للحضارة، داعيًا إلى احترام التنوع الثقافي، وتعزيز القيم الإنسانية المشتركة، وإبراز إرث الحضارات وابتكارها، وتعزيز التبادلات الثقافية الدولية، وبالتالي مساهمة الحكمة والحلول الصينية في تطوير الحضارة البشرية.
ثالثًا، آفاق التعلم المتبادل بين الحضارات واسعة. في العالم الحديث، الذي يَتميز بالاضطرابات والتحديات مثل نقص السلام، والتنمية، والأمن، والحُكم، تقف البشرية عند مفترق طرق وتواجه عقبات غير مسبوقةٍ. يَنبغي علينا استخلاص الدروس من التاريخ، والبحث عن الحكمة والغذاء الروحي من حضاراتٍ مُتنوعة لتوفير الدعم الروحي ومساندة  البشرية، مع معالجة التحديات المختلفة التي نواجهها معًا.

 

  1. رابعًا: تبادل التعاون في التراث الثقافي: مُحفز للحوار الحضاري بين الصين والعالم العربي في العصر الجديد.
  2. يُمثل التراث الثقافي تألق الحضارات، ويُحافظ على التاريخ والثقافة، ويُحافظ على الروح الوطنية، ويَستمر في توارث جينات وأصول الأمة. تُعدُّ معارض القطع الثقافية وسيلة حيوية وفعّالة لرواية القصص و تعزز التعلم المتبادل بين الحضارات. كما تعمل كـ “بطاقات عمل ذهبية” مِمَّا يُساند التفاعلات الوديَّة بين الدول وتُساهم في توصيل الشعوب.
    تفتخر الأمة الصينية بحضارة متواصلة تمتدُ لأكثر من خمسة آلاف عام ٍ، وقد أنشأت هذه الحضارة ثقافة غنية وعميقة وتركتْ وراءها ثروة من الآثار الثقافية وموارد التراث. حاليًا، تمتلك الصين 59 موقعًا للتراث العالمي، و767,000 قطعة أثرية ثقافية غير منقولة، وأكثر من 108 مليون قطعة/مجموعة من الآثار الثقافية المنقولة. يوجد 6,833 متحفًا مُسجلًا في جميع أنحاء البلاد، والتي استضافت أكثر من 40,000 معرض غيرَ متصلٍ بالإنترنت في عام 2023، وجذبت 1.29 مليار زائر. أصبحت المتاحف والمنتجات الثقافية ذات الصلة جزءًا لا يتجزأ من رفاهية الناس.
    باعتبارها الفريق الوطني لتبادل التراث الثقافي الدولي، حافظت معارض الفنون في الصين على تعاون وثيق مع أكثر من 60 دولة ومنطقة، بالإضافة إلى مئات المتاحف والمعاهد الثقافية الشهيرة حول العالم منذ تأسيسها. وقد نجحتْ في تخطيط وتنفيذ أكثر من 500 معرض داخلي ودولي مهم، مِمَّا لعبَ دورًا نشطًا في عرض الحضارة الإنسانية وتعزيز الفهم المتبادل بين الثقافات.

  ولتعميق التبادل الثقافي والتعلم المتبادل مع الدول العربية، نقترح المبادرات التالية:

  1. 1. تعزيز تبادل المعارض والتعاون بين المتاحف الصينية والعربية والمؤسسات الثقافية من خلال المعارض المتبادلة، والمعارض المشتركة، ومعارض الحوار، بالإضافة إلى المعارض الواردة والصادرة. سيُساعد هذا في اكتشاف وتفسير الدلالات الغنية والقيم المتعددة المحتواة في التراث الثقافي للمنطقتين، مِمَّا يُعزز القيم الإنسانية المشتركة المتمثلة في “السلام، والتنمية، والعدالة، والمساواة، والديمقراطية، والحرية”.

 .2 توسيع قنوات وطرق التبادل الثقافي: من خلال تعزيز إنشاء آلية تبادل وتعاون حكومية بين الصين والدول العربية في مجال التراث الثقافي؛ وتعميق التعاون العملي بين مؤسسات التراث الثقافي في تخطيط المعارض، وعلم الآثار المشترك، والنقاشات الأكاديمية، وتبادل الأفراد، والسياحة الثقافية، والتعاون الفني، بهدف تشكيل نمط متنوع وتفاعلي من التبادلات الثقافية.

.3 تعزيز الدعم للابتكار التكنولوجي: لقد غيَّرَ التطور السريع لتكنولوجيا المعلومات الرقمية بشكل عميق طرق إنتاجنا وحياتنا. يجب علينا الاستفادة الكاملة من تكنولوجيا المعلومات الرقمية لإثراء وابتكار التعبير ومحتوى المعارض. من خلال استضافة معارض رقمية، ومعارض الضوء والظل، ومعارض التجارب الغامرة بشكلٍ مشترك، يمكننا باستمرار خلق روائع ثقافية تتجاوز الزمن والمكان، وتفوق الحدود الوطنية، وتنبض بالسحر، وتحظى بحب الجمهور، مِمَّا يُعزز نقل وابتكار الحضارات الصينية والعربية.
كما يقول مثل صيني قديم: الذين يتشاركون نفس الطموحات لن يسمحوا للجبال والبحار أن تفصلَ بينهم. أفضل إرث للتاريخ هو خلق تاريخ جديد، وأعظم احترام للحضارة الإنسانية هو خلق أشكال جديدة من الحضارة. دعونا نتكاتف لتعزيز روح طريق الحرير، وتنفيذ المبادرة العالمية للحضارة، وتعميق محتوى وأشكال تبادلات التراث الثقافي بين الصين والدول العربية. لـ نَدع التعلم المتبادل بين الحضارات يُصبح جسرًا لتعزيز الصداقة بين شعوب الصين والدول العربية، وقوة دافعة لتقدم المجتمع البشري، ورابطة للحفاظ على السلام العالمي، مُوفرًا قوة روحية قيمة لإثراء بستان الحضارة البشرية وتعزيز تطويرها وازدهارها.

وفي النهاية لا يسعني إلا أنْ أتقدم لكم بجزيل الشكرعلى حُسن استماعكم.