نظر العرب والمسلمون إلى أنفسهم من خلال كتابتهم عن الصين: ملاحظات وتأملات

افتتاحية:
أشكر دار الآثار الإسلامية على الدعوة الكريمة وأرجو أن أقدم شيئا نافعا. عنوان ورقتي هو: نظر العرب والمسلمون إلى أنفسهم من خلال كتابتهم عن الصين: ملاحظات وتأملات.
سأستهل حديثي بمدخل نظري، ثم أعرج على الهدف من الموضوع، وبعد ذلك أشير على عجالة إلى الدراسات السابقة وكذلك بعض سمات الذات الصينية التي تبغي الذات العربية حملها (من خلال الكتابة) على الاعتراف بها. ثم أدلف إلى الشواهد الكتابية العربية التي حاولت عن تعبر عن الذات العربية من خلال الكتابة عن الصين، وأعلق عليها وأقارن بينها إن لزم الأمر. وأختم ورقتي بملاحظات وتساؤلات.
أنوه أنني سأقرأ من الورقة تجنبا لأي استطراد غير ضروري وحتى لا أسترسل في نقطة وأهمل نقاطا أخرى.
وبعد فهذه تأملات وملاحظات أولية لم يسعفني الوقت والظروف إلى تقديمها كدراسة أكاديمية علمية صارمة ومنهجية ذات نتائج واضحة أو مترابطة. وهذه التأملات والملاحظات صادرة من إنسان غير متخصص في تاريخ العلاقات الصينية العربية ولم يتخط عتبة المبتدئين في اللغة الصينية. فأعتذر عن القصور والخطأ مقدما.

1- مدخل نظري:
إن التجمعات البشرية تحتاج إلى ذاكرة جمعية وتاريخية كركن من أركان هويتها الوجودية أو لنقل كركن من ثقافتها الخاصة بها. ويظهر أن من أنجع السبل سواء عند الثقافات الكتابية أو غير الكتابية هو استخدام القصة والحكاية السردية للتعبير عن الذاكرة الجمعية والتاريخية وبالتالي تشكيل وتوكيد للهوية الجماعة الثقافية. ونستطع القول إن هذا الأمر ينتج هوية سردية متماسكة للأمة، أي التعريف بهذه الأمة من خلال سرد تاريخي له حبكته عامة تضفي عليه نظرة تفسيرية عامة لتاريخ هذه الأمة. إن تشكيل هوية سردية هو تأكيد على وجود الذات الجمعية واستمراريته في العالم الإنساني وتأكيد على تمايز هذه الذات عن غيرها من الذوات الثقافية. إذا عندما تحكي الجماعة المتجانسة ثقافيا عن نفسها فهي تشير إلى وجود ذات جمعية سردية. وإذا لم تستطع الذات إلى تكوين هوية سردية أو الحفاظ عليها فإن هذا يؤدي إلى حالة فراغ سردي يقوم الطرف الآخر الذي يمتلك القوة أو سائل هيمنة إلى ملء حالة الفراغ السردي لدى الذات. فتصبح الهوية السردية للذات تابعة للهوية السردية للطرف الآخر القوي والمهيمن الذي يرى أن هذه الذات لا تملك تاريخا، وعليه يصبح الآخر هو المعبر عن الذات العاجزة عن التعبير عن نفسها. يعني هذا أن وجود الذات يقتضي وجود الآخر الذي لديه ذاكرة مختلفة وهوية سردية مختلفة وبالتالي ذاتا سردية مختلفة. الهوية السردية تحتاج إلى الآخر لتعريف نفسها أو إثبات وجودها. فما هي الذات دون الآخر؟ ولذلك تسعى الذات السردية إلى استنطاق الآخر في حال سكوته أي كانت أسباب هذا السكوت، حتى يسهم الآخر في تشكيل هوية الذات السردية.
إن وجود الآخر في الهوية السردية للذات تؤكد أن الثقافات أو الحضارات ليست كيانات وهويات صماء ومعزولة تماما عن الآخرين. بل إنها تنمو وتتمايز بقدر تفاعلها مع الآخر، سواء أكان هذا التفاعل احتواء للآخر أو تبادل ثقافي أو حتى هيمنة أو سرقة هذ الآخر. وهذا يعني أن التثاقف (أي التأثيرات المتبادلة بين الثقافات المختلفة) يهدم أسطورة وجود أمم (لا تاريخ لها) أو أنها خارج التاريخ (أي أنها متخلفة أو بدائية) تنتظر من يأتي إليها (أو بالأحرى يغزوها) ليدخلها إلى المسرح التاريخي. يقول عالم الإناسة (الأنثروبولوجيا) إيك وولف في خاتمة كتابه المهم أوروبا ومن لا تاريخ لهم عندما تحدث عن الهويات المنفصلة:
“إذا فكرنا بمثل هذه التفاعلات [الاجتماعية والثقافية] لا بوصفه سببا ذاتيا، بل على أنه متجاوب مع قوى اقتصادية وسياسية أكبر، أن يأخذ في اعتباره ذلك الإطار الأوسع، ساحة القوى الأكبر، وبالتالي فإن من الأفضل رؤية “أية ثقافة” بوصفها سلسلة عمليات تنشئ، وتعيد إنشاء، وتفكك جملة مواد ثقافية تجاوبا مع عوامل محددة”.
إن السرد التاريخي الذي يبتغي بناء وتشكيل الذات والهوية السردية يتجه إلى التركيز على الشخصية وليس الأحداث التاريخية، لأن الأحداث المدونة فردية ومتناهية خاضعة لواقعها المحدود أو الزمان والمكان. أما الشخصية فهي ذات حمولات ثقافية وفكرية متوارثة عبر الذاكرة الجمعية التاريخية المعبر عنها بالسرد. ولذلك فإن الشخصية ألصق بالذات من الأحداث. فتصبح الشخصية المعبرة عن الذات هي محور الحبكة وليس الحدث نفسه كما لفت إلى ذلك بول ريكور، الذي يقول “إن مقولة الشخصية هي بالتالي مقولة سردية ودورها في القصة يعود إلى المفهومية السردية عينها التي نعود إليها الحبكة نفسها” ويقول في الفقرة التي تليها “تحافظ الشخصية على امتداد القصة هوية مترابطة مع هوية القصة نفسها”.

2- موضوع الورقة:
إن موضوع الورقة ليس بناء الهوية السردية لأمة ما عن طريق قيام أفراد هذه الأمة بتدوين تاريخها الخاص. وليس موضوع هذه الورقة هو قيام أفراد أمة ما بتدوين تواريخ الأمم الأخرى وبالتالي بناء هويات سردية لهذه الأمم. إنما موضوع هذه الورقة هو محاولة رصد وتأمل بناء العرب والمسلمين لهويتهم السردية من خلال كتاباتهم التاريخية والبلدانية والثقافية عن الصين كبلد وكحضارة وكمملكة وكثقافة. أي كيف تنظر الذات العربية إلى نفسها عندما كتبت عن الذات الصينية، بتدوين أحداث ولقاءات ووقائع تاريخية يفترض أنها “حدثت” أي وقعت في زمان ومكان ما بين المسلمين والصينيين. وهذه الوقائع (التي تعتبر مدلولات خارجية أي أنها حقائق وجودية موضوعية) وُضعت في حبكة أو سرد عام يسبغ عليها دلالة تاريخية معينة. ما يعني إعادة تشكيل هذه الوقائع مفاهيميا وثقافيا وتاريخيا بما يتوافق مع الحبكة العامة وبالتالي مع الذات الساردة لهذه الأخبار والأحداث.

إن الشواهد الكتابية التي سنتأملها مصدرها بعض أبرز الكتابات العربية والمسلمة في القرنين الثالث والرابع الهجري في مجال الكتابات التاريخية والبلدانية (أي كتب الجغرافيا والمسالك والممالك) وأدب الرحلات. وليس يعنيني التثبت من صحة ودقة هذه الكتابات العربية عن الصين أو ما هي مصادرهم عنها، وإنما الهدف هو البحث في الدلالات والمضامين التاريخية والمعرفية الكامنة خلف هذه الكتابات، وكما ذكر الجاحظ “دلائل الأمور أشد تثبيتا من أقوال الرجال”. ولا يعني هذا التهوين من التثبت من الأخبار التاريخية ومعرفة الصواب والخطأ فيها، وإنما بسبب حدود الموضوع الذي أطرقه وضيق الوقت يستلزم التركيز على أمر ما دون بقية الأمو، وكما قيل “ما لا يدرك جله لا يترك كله”.

– ما الذين تريده الذات العربية من الذات الصينية؟
تريد الذات العربية الحصول على الاعتراف بها من خلال الكتابة عن الصين، أي أن تعترف الصين كمملكة وكحضارة بالذات العربية. والاعتراف من ثلاثة أوجه: أولا الاعتراف بوجود ذات عربية مسلمة في العالم المعمور (أي أنها ذات لها تاريخ وهوية متميزة ومستقلة). ثانيا والاعتراف بالندية الحضارية، أي العرب والمسلمون يملكون حضارة تنافس أو تضاهي الحضارة الصينية. ثالثا وهو الأهم الاعتراف بالكمال والتفوق والأفضلية الحضارية والتاريخية للعرب والمسلمين على الصين.
تاريخيا لم يستطع العرب والمسلمون فرض هيمنتهم الحضارية على الصين ولم يستطيعوا اخضاعها سياسيا أو حتى اقتصاديا، رغم وصولهم إلى الحدود الصينية ووقوع بعض الاشتباكات العسكرية المحدودة بين الطرفين. ورغم بعض النجاحات العسكرية العربية الإسلامية لكنها لم تقوض حضاريا وسياسيا الصين. يعني هذا أن الذات السردية العربية في (دار الإسلام) لم تستطع أن تحتوي الذات السردية الصينية داخل هويتها السردية العربية والمسلمة ولم تمتلك القدرة على ذلك. زد على هذا أن تقاليد الكتابة التاريخية الصينية أقدم عهدا من الكتابة التاريخية العربية وأكثر استمرارية، مما يعني استمرار الاستقلال الذاكرة التاريخية الجمعية الصينية. بيد أن التعددية الثقافية وتوسع الذاكرة الجمعية التاريخية لأمة ما هو توسيع وتقوية لهويتها، وبخاصة إذا جاء هذا الاستمداد من ثقافات أو أمم ذات ثقل حضاري في التاريخ البشري. فلم يكن بد من الذات العربية إلا اللجوء إلى الاشتباك السردي مع هذه الذات الصينية العصية بطريقة توحي باعتراف الذات السردية الصينية بالذات السردية العربية.

– لكن لماذا الحاجة إلى خلق الاعتراف عن طريق السرد من قبل الذات الصينية؟
لعل الإجابة نجدها عند الإصطخري (المتوفى في القرن النصف الأول من القرن الرابع الهجري)، وهو أحد أبرز الجغرافيين في زمانه حيث يقول في كتابه المسالك والممالك:
“وعماد ممالك الأرض أربعة… مملكة فارس… فمملكة الروم… ومملكة الصين تدخل فيها سائر بلدان الأتراك وبعض التبّت ومن دان بدين أهل الأوثان منهم، ومملكة الهند… ولم أذكر بلدان السودان في المغرب والبُجَة والزنج ومن في أعراضهم من الأمم لأنّ انتظام الممالك بالديانات والآداب والحكم وتقويم العمارات بالسياسة المستقيمة وهؤلاء مهملون لهذه الخصال ولا حظّ لهم في شيء من ذلك فيستحقّوا به إفراد ممالكهم بما ذكرنا به سائر الممالك… وقد زادت مملكة الإسلام بما اجتمع إليها من أطراف الممالك.”
إذا الصين هي أحد الممالك والحضارات الرئيسية التي تعرّف تاريخيا وحضاريا ومكانيا العالم المعمور للبشر.
بالنسبة للحدود البحثية للورقة فسيكون تركيزنا عموما كما ذكرت على بعض الكتابات العربية والمسلمة في القرنين الثالث والرابع الهجري لعدة اعتبارات. أولا أن هذه خلال هذه الحقبة ظهرت الكتابات التأسيسية التي وثقت وكتبت عن الصين من وجهة عربية ومسلمة. ولقد أصبحت هذه الكتابات بمثابة مصادر معلوماتية ومفاهيمية لما بعدها من الكتابات التي كتبت عن الصين. الأمر الثاني أن الكتابات المتأخرة وبالأخص منذ القرن الثامن الهجري فما بعد رغم أهميتها فإنها شهدت تحولات حضارية كبيرة بسيطرة المغول على الصين والمشرق الإسلامي. نجد هذا الأمر عند رشيد الدين الهمذاني، وابن فضل الله العمري، وابن بطوطة وغيرهم. وبالتالي فقد تكون النتائج والملاحظات الاستنتاجية مختلفة. الأمر الأخير أن الورقة التي نقدمها موجزة ومختصرة ويصعب علينا في دقائق معدودة أن نغطي جميع الفترات التاريخية والمصادر التي كُتِبت فيها.

3- دراسات سابقة:
قبل البدء هناك بعض الدراسات المعاصرة التي استفدت منها وهي
– Mapping the Chinese and Islamic Worlds: Cross-Cultural Exchange in Pre-Modern Asia, Hyunhee Park.
– A Brief History of Sino-Arabic Cultural Exchanges, Song Xian (الترجمة العربية: موجز تاريخ التبادلات الثقافية بين الصين والعالم العربي)
– الآخر في الثقافة العربية: صورة شعوب الشرق الأقصى في الثقافة العربية الوسيطة: الصين والهند وجيرانهما)، شمس الدين الكيلاني.
– الحضارة الصينية في التراث العربي، فيصل بن سويّد العجمي

وهذه الدراسات تكلمت عن تصورات العرب والمسلمين عن الصين وكيف كتبوا عنها. أما ورقتي فهي تسعى إلى معرفة كيفية نظر الذات العربية إلى نفسها عندما كتبت عن الذات الصينية.

4- سمات الذات الصينية:

– ذات متحضرة ومعبرة عن نهاية المعمور الشرقي.
– مكتفية بنفسها ومنفتحة على الآخر.
– الحذق في السياسة والإدارة.
– الحذق في الصناعة والعلوم.
– ذات مسالمة ومقاومة في آن واحد.

5- الذات العربية:
لعل أول ما يسترعي الانتباه هو صفة العربية عند استشهادنا بالأخبار التاريخية والمصادر التي أوردت هذه الأخبار. فهل يصح وصفها بالعربية؟ إن كنا ننظر للكلمة من منظور عرقي ونَسَبي فالأمر صحيح. بيد أن بعض المؤلفين كالسيرافي وابن الفقيه الهمذاني وأبو حنيفة الدينوري والطبري ليسوا عربا ولم يعتبروا أنفسهم عربا ولم يصنفهم من ترجموا لهم بأنهم كانوا عربا. فلماذا نصر على كلمة العرب والعربية؟ إنما الأمر اختلف قليلا بعد الإسلام بأن تداخل الإسلام والعربية على عدة مستويات وأصعدة، وكما قال أحد الموالي لأبي جعفر المنصور “إن كانت العربية لسانا فقد نطقنا فيه، وإن كانت العربية دينا فقد دخلنا فيه”. والأشخاص الذين أشرت إليهم آنفا كانوا مسلمين تحدثوا وكتبوا بالعربية وعاش بعضهم في بيئة عربية.

أبدأ الآن بذكر الأخبار التاريخية وأستهل بقصة الإسكندر المقدوني الذي أصبح في نظر بعضهم ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم. فالإسكندر ذو القرنين يسير مع جيشه في مشارق الأرض ومغاربها لنشر التوحيد بالله وحده وكانت الصين أحد أهم الوجهات التي يمم شطره إليها. وهناك كما تذكر بعض المصادر (كأبي حنيفة الدينوري في الأخبار الطوال، وكتاب سير الملوك المنسوب إلى الأصمعي) أن الإسكندر ذا القرنين تنكر بزي مبعوث الإسكندر إلى ملك الصين وعندما حدث اللقاء يصور الرواة أن ملك الصين استجاب لمطالب الإسكندر بالخضوع له ودفع الإتاوة السنوية له وأهداه تاجه وكثيرا من الهدايا. أما الثعالبي صاحب كتاب غرر أخبار الفرس، فقد جعل ملك الصين هو من دخل متنكرا على الإسكندر ذي القرنين في معسكره وأذعن له بالطاعة، ولكنه في اليوم التالي فاجأ الإسكندر بجيش صيني عرمرم طوق به جيش ذي القرنين، وقال “أردت أريك أني لم أطعك من قلة ولا ضعف، ولكن رأيت العالم العلوي مُمَكنا لك مما هو أقوى منك ومن حارب العالم العلوي غُلِب فأردت طاعته بطاعتك”. تاريخيا لم يؤثر أن الإسكندر التقى ملك الصين أو بسط نفوذه على الصين، ولقد تَلَقف المؤلفون والمؤرخون المسلمون هذا الخبر من المصادر السريانية المسيحية التي ترجمت سيرة الإسكندر عن الإغريقية، ثم أصبغ المسلمون على قصته صبغة إسلامية قرآنية. ونلاحظ أن الإسكندر ذا القرنين رغم نجاحاته العسكرية اضطر أن يسلك سبيل المناورة السياسية لإخضاع الصين لرؤيته التوحيدية بشقيها السياسي والديني.

لكن أبى الرواة والأخباريون أصحاب النزعة اليمانية أن يجعلوا الإسكندر هو ذو القرنين وبالتالي جردوه من مأثرة إخضاع الصين، ونسبوا هذا الإنجاز لملوك حمير القدماء. ولقد حاول هؤلاء الرواة والأخباريون وضع الإسكندر تحت مجهر النقد التاريخي ووضعوا في سياقه التاريخي ” لم تكن الروم تروم ذلك ولا لها قوة ذلك” كما هو القول منسوب إلى كعب الأحبار الحميري والذي ذكره صاحب كتاب التيجان في ملوك حمير. إن ملوك حمير هم الذين استطاعوا غزو الصين واخضاعها واقعيا وليس رمزيا كما فعل الإسكندر. وأول من فعل ذلك من ملوك حمير هو الصعب بن الحارث الذي جعلوه ذي القرنين والذي “غلب على جميع أرض الصين” كما يزعمون. ويبدو من سياق السرد الأسطوري المؤرخن لكتاب التيجان في ملوك حمير أن الصين لم تبق تحت يد حمير بعد وفاة ذي القرنين ما دفع ملوكها وبالأخص شَمِر الرائش أن يحاول إخضاعها ثانية، ولكنه اكتفى بعد ذلك بالعودة إلى سمرقند ويكتب على أبوابها بلغة حمير “هذا ملك العرب شمر بن يرعش، من فعل فعلي بعدي فهو مثلي ومن جاوزه فهو أفضل مني”. مرة أخرى نجد في المصادر اختلافا، فبعضهم (مثل الدينوري والكتاب المنسوب للأصمعي) يصور فشل حملة شَمِر الرائش إلى الصين وهلاكه بسبب خدعة وزير ملك الصين، لكن خليفته تبّع الأقرن أخذ بثأر أبيه وهزم أهل الصين وأخرب عاصمتهم.

بعد كتابة شَمِر ووفاته يحدث انعطاف سردي هام وتداخل زماني بين ماضي بعيد وماض قريب. فابن هشام وهو راوية كتاب التيجان، يقول أن القائد الأموي قتيبة بن مسلم الباهلي لما سيطر على سمرقند طلب من أحد الحميريين أن يقرأ ما كتبه شَمِر الرائش، ثم بعد ذلك علّق قتيبة بما معناه ” ما أرى بتبع من حمير إلا الآثار فما في هذا أعظم شيء وهذا أنا بلغتها. فقال له الحميري: يا قتيبة لم تصغر بالأول ولكن بالآخر إن بلغت الصين فقل – فأُسكت قتيبة – ثم قال الحميري: يا قتيبة تقدم فرسخاً وإلا اشمت بضعف الإسلام. قال: فرجع من سمرقند”. لكن ابن الفقيه الهمذاني صاحب كتاب البلدان له رأي آخر وهو أن قتيبة لما سمع ما كتبه شَمِر أبى “أن لا يرجع حتى يطأ بلاد الصين. وبلغ ذلك ملكها فخاف فبعث إليه بإكليل مفصّل بالياقوت وبجِراب من تراب بلده وقال: أُبسط هذا التراب وامش عليه، فإذا فعلت فقد برّت يمينك. وضمن له خراجا في كل سنة، فقبل له ذلك منه”.

إن قصة بلوغ قتيبة بن مسلم حدود الصين وخضوع ملكها ولو رمزيا له كانت مقتضبة في القرن الثالث الهجري ولم تشتهر في الكتابات إلى أن جاء مؤرخ الأمة الإسلامية محمد بن جرير الطبري الذي أسهب في تفاصيل هذا الحدث التاريخي بذكر فتح قتيبة لكاشغر وإرساله وفدا التقى ملك الصين، الذي أعجب باعتزاز الوفد بهويتهم ومكانتهم الحضارية وثقتهم بقدراتهم العسكرية ما جعله يخضع ولو رمزيا لقتيبة. هناك أربع شخصيات تاريخية محورية فيما عرضناه آنفا: الأولى مؤسلمة (متمثلة بالإسكندر ذي القرنين) والثانية عربية ومؤسلمة (متمثلة بالصعب الحميري ذي القرنين كذلك) والثالثة عربية فقط ولكن نهايتها لها علاقة بالعرب المسلمين لاحقا (متمثلة بشَمِر الرائش) والرابعة عربية مسلمة (متمثلة بقتيبة بن مسلم). وما يجمع هذه الشخصيات هو قدرتها (من خلال السرد) على إخضاع الصين للعرب والمسلمين دون إقرارها بأفضليتهم الحضارية عليها. وهنا يأتي دور أخبار أخرى لتؤدي هذا الدور.

فيذكر الطبري في تاريخه أن يزدجرد، آخر ملوك الدولة الساسانية، عندما توالت عليه الهزائم من قبل المسلمين أرسل رسولا إلى ملك الصين يستنصره، ولكن يبدو أن الرسول رجع بخفي حنين وأخبر يزدجرد ما دار بينه وبين ملك الصين:
“فَصِفْ لِي صِفَةَ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ بِلادِكُمْ، فَإِنِّي أَرَاكَ تَذْكُرُ قِلَّةً مِنْهُمْ وَكَثْرَةً مِنْكُمْ، وَلا يَبْلُغُ أَمْثَالُ هَؤُلاءِ الْقَلِيلِ الَّذِينَ تَصِفُ مِنْكُمْ فِيمَا أَسْمَعُ مِنْ كَثْرَتِكُمْ إِلا بِخَيْرٍ عِنْدَهُمْ وَشَرٍّ فِيكُمْ، فَقُلْتُ: سَلْنِي عَمَّا أَحْبَبْتَ، فَقَالَ: أَيُوفُونَ بِالْعَهْدِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَمَا يَقُولُونَ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ؟ قُلْتُ: يَدْعُونَنَا إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلاثٍ: إِمَّا دِينُهُمْ فَإِنْ أَجَبْنَاهُمْ أَجْرُونَا مُجْرَاهُمْ، أَوِ الْجِزْيَةُ وَالْمَنَعَةُ، أَوِ الْمُنَابَذَةُ قَالَ: فَكَيْفَ طَاعَتُهُمْ أُمَرَاءَهُمْ؟ قُلْتُ: أَطْوَعُ قَوْمٍ لِمُرْشِدِهِمْ، قَالَ: فَمَا يُحِلُّونَ وَمَا يُحَرِّمُونَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَيُحَرِّمُونَ مَا حُلِّلَ لَهُمْ، أَوْ يُحِلُّونَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ؟ قُلْتُ لا، قَالَ: فَإِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَهْلِكُونَ أَبَدًا حَتَّى يُحِلُّوا حَرَامَهُمْ وَيُحَرِّمُوا حَلالَهُمْ” ثم قال كان جواب ملك الصين ليزدجرد ما يلي “إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَبْعَثَ إِلَيْكَ بِجَيْشٍ أَوَّلُهُ بمرو وَآخِرُهُ بِالصِّينِ الْجَهَالَةُ بِمَا يَحِقُّ عَلَيَّ، وَلَكِنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَ لِي رَسُولُكَ صِفَتَهُمْ لَوْ يُحَاوِلُونَ الْجِبَالَ لَهَدُّوَها، وَلَوْ خُلّى سَربهم أَزَالُونِي مَا دَامُوا عَلَى مَا وَصَفَ، فَسَالِمْهُمْ وارض منهم بالمساكنة”.
إن الطبري مؤرخ لمّاح ويحسن عرض مادته السردية وليس فقط جمّاع للأخبار كما يظن بعضهم. ولو وضعنا خبري يزدجرد وقتيبة وفق السياق السردي لظهر لنا أن الطبري يشير من طرف خفي إلى أن اعتراف ملوك الصين بالهيمنة العربية وقوتها جاء بعد أن خبروا أفضليتها أو خيريّة الأمة العربية المسلمة.
يتكرر هذا النمط من السرد بطريقة مختلفة عند أبي زيد السيرافي (القرن الرابع الهجري) الذي دون أخبار من زاروا الصين كسليمان التاجر في القرن الثالث الهجري، وأيضا ابن وهب (النصف الثاني من القرن الثالث الهجري) القرشي، الذي قابله أبو زيد وأخذ عنه قصته مع ملك الصين الذي التقه ابن وهب. وفي الحوار الطويل الذي دار بين ابن وهب وملك الصين قال الترجمان لابن وهب:
“إنا نعدُّ الملوك خمسة: فأوسعهم ملكاً الذي يملك العراق، لأنه في وسط الدنيا، والملوك محدقة به، ونجد اسمه ملك الملوك، وبعده ملكنا هذا، ونجده عندنا ملك الناس، لأنه لا أحد من الملوك أسوس منا، ولا أضبط لملكه من ضبطنا لملكنا، ولا رعية من الرعايا أطوع لملكها من رعيتنا، فنحن ملوك الناس.” هنا إقرار بالمركزية الحضارية للعرب وأنهم المعيار العالمي الذي تقاس به بقية الحضارات والأمم. بعد ذلك ترتفع وتيرة السرد الحواري بين الطرفين بشكل مفاجئ عندما أخرج ملك الصين صور الأنبياء ومن ضمنهم صورة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ما جعل ابن وهب يبكي عند رؤيته للصورة وقول ملك الصين بعدها ” لقد ملكَ قومه أجلّ الممالك”. يلاحظ في هذا الحوار المزعوم أن الأفضلية تستمر لصالح العرب والمسلمين ليست فقط من الناحية السياسية وإنما كذلك من الناحية الحضارية والدينية. بل إن أبو زيد السيرافي في روايته لهذه الحادثة يدمج آفاق الأزمنة المختلفة في نسق سردي واحد متصل ليؤكد توقع ملك الصين بريادة العرب بناء على الواقع والتجربة وفوق هذا وذاك بناء على التنبؤات. ولم ينسى أبو السيرافي أن ينوه بإعجاب ابن وهب القرشي بعظمة وعدل ملك الصين وازدهار بلادهم.

المثال الأخير يبدو أكثر تاريخية من الأخبار السالفة الذكر، لأن راويها هو أبو دلف الخزرجي والذي كان مبعوثا رسميا من قبل أمير الدولة السامانية في بلاد ما وراء النهر نوح بن أحمد الساماني إلى ملك الصين في النصف الأول من القرن الرابع الهجري. وسبب هذه البعثة الرسمية ذكره أبو دلف في مقدمة رحلته أن ملك الصين رغب بالزواج من ابنة الأمير الساماني المسلم ولكن الأمير رفض هذا الطلب لمخالفته للشريعة الإسلامية. وعوضا عن ذلك طلب الأمير الساماني أن يزوج أحد أبنائه بابنة ملك الصين، فأجاب هذا الأخير إلى طلبهم.
بعد قرابة قرن من الزمان يأتي القاضي الرشيد ابن الزبير في كتابه الذخائر والتحف خبرا مطولا وقع في زمان الأمير الساماني نفسه ملخصه أن ملك الصين، بسبب وشاية أحد الحاقدين، أوفد مبعوثين إلى الأمير نوح بن أحمد يهدده ويطلب منه الإذعان للصين. لكن المبعوثين الصينيين هالهم عظمة الدولة لاسامانية وإمكانياتها العسكرية، فظنوا أن الأمير الساماني أعظم ملوك الإسلام، ولكن يأتيهم الرد بشكل شعائري طقوسي عندما رأوا بأم أعينهم كيف تسلم الأمير الساماني كتاب الخليفة العباسي، فيقول الكاتب “قام نصر وحول وجه إلى القبلة وسجد وأدخل يده تحت البساط وأخذ من التراب الذي استعدّه وحثا على رأسه وقال: وحق الله الذي خلقني وخلق العالمين إن الخليفة ما رآني ولا يعرفني إلا بالاسم كما يعرف بعض عبيده. وإني لا أعرف له عبدا قده أمر المسلمين أقل مني”. وكانت هذه الحادثة سببا في إسلام ملك الصين كما يزعم القاضي ابن الزبير!
في هذا الخبر الغريب نجد ملك الصين لا يقر فقط بسيادة الإسلامية، بل هو نفسه يدخل في الإسلام ويُسلّم بشكل كامل ومطلق للمركزية الحضارية والعالمية للعرب والمسلمين. إن الاشتباك السردي بلغ مداه مع القاضي ابن الزبير أقصى مراحله بأن أصبح الآخر (أي الصين) جزءا من الذات العربية المسلمة. الآخر هو الذات والذات هي الآخر.

6- ملاحظات ختامية:
بعد هذه الرحلة الموجزة أضع بين أيديكم بعض الملاحظات والتساؤلات:
نلاحظ في رصدنا للكتابات العربية والمسلمة أمرا وهو بما إن الذات تعبر عن نفسها من خلال السرد فيقتضي هذا دخول العنصر الزماني الذي ينحو نحو التغيير والتحول أو الصيرورة. غير أننا نلاحظ أن الذات العربية والصينية، في الفترة التاريخية التي نرصدها، كانتا ثابتتين ومحافظتين على سماتهما الجوهرية في وجه الصيرورة الزمانية، وخاصة ما هو متعلق بالثقافة. لكن جوهرانية الذوات نلحظها بسبب التغيرات التي تطرأ على الجوانب الحضارية المختلفة والمصاحبة للذات في مسيرتها السردية، مثل: النظم السياسية والاقتصادية. فالذات ثابتة لأن غيرها متغير.
هذه الكتابات التي تطرقنا لم تهدف فقط إلى محاكاة أو تمثيل مطابق للواقع، بمعنى أنها تمثل من خلال الكتابة الحدث التاريخي كما وقع، ولكنها كذلك كتابات مرآتية تعكس الذات وتعبر عنها. وهنا أستميحكم عذرا بالتطفل على المتخصصين بتاريخ الصين وأشير إلى كتاب Mirroring the Past The Writing and Use of History in Imperial China
الذي يجادل فيه المؤلفان بأهمية كتاب الانعكاسية والمرآتية في ظهور ونمو الفكر الصيني التاريخي.

إن الذات العربية بممارستها للكتابة الانعكاسية انعطفت تجاه نفسها محاولة اكتشافها من زاوية مختلفة (أي عن طريق الآخر)، وأيضا محاولةً معرفة موقعها في العالم الذي تعيش فيه. إن الكتابات العربية عن الصين لم تكن متعالية أو منفصلة عن موضوعها وإنما كانت محايثة للموضع ليس فقط لأجل الغوص في كوامن الآخر واستنطاق تاريخه وإنما أيضا لزيادة وعي الذات العربية والمسلمة بنفسها. وكما يقول ريمون آرون عند شرحه لفكر الفيلسوف فيلهم دلتاي “وذلك لأن الحياة في التاريخ هي في آن واحد ذاتٌ وموضوع، إنها وعي بانعطاف الحياة الفكرية على نفسها”.

وهذا يحيلني إلى الملاحظة الأخيرة: إ نلاسرد العربي عن الصين نلحظ فيه حضور المفارقة التاريخية (anachronism) بإسقاط الذات على الآخر والعكس صحيح، وكذلك باندماج الآفاق الزمنية المختلفة تجعل التاريخ يسير بطريقة غائية تنبؤية. وهذا ما يطلق عليه منظر التاريخ رينهارت كوزيليك بالماضي المستقبلي (future past) القائم على مساحة التجارب المكتسبة وآفاق التوقعات المبنية وعلى الحاضر أو الواقع المعاصر لهذه الاندماج بين الأزمنة.

المعذرة على الإطالة وشكرا لكم. 

 

_________________

[1] استلهمت المفاهيم والأفكار المتعلقة بالهوية السردية والذات السردية من الفيلسوف الفرنسي بول ريكور وبخاصة كتابه (الذات عينها كآخر). ولكني لم أتبنى أو أطبق ما طرحه حرفيا، وإنما استفدت منها وطوعتها لصالح الموضوع.

[2] أعني بالذاكرة الجمعية التاريخية تلك الأخبار المتوارثة جيلا بعد جيل والتي تحفظ أصول ونشأة الجماعة ومسيرتها عبر التاريخ.

[3] إريك وولف، أوروبا ومن لا تاريخ لهم، ٥٤٢.

[4] ريكور، الذات عينها كآخر، ٢٩٨. الشخصية تعني “ذاك الذي يضطلع بسير الأحداث في القصة”

[5] لا يعني هذا اختزال كل ما كتبه العرب والمسلمون عن الصين في هذه الفرضية. لكن موضوع ورقتنا هو التركيز على هذه النقطة.

[6] الإصطخري، المسالك والممالك، ١٧ – ١٨. وتابعه على ذلك معاصره ابن حوقل الذي نقل النص نفسه. ابن حوقل، صورة الأرض، ٩ – ١٠.

[7] غرر أخبار الفرس، ٤٣٩.

[8] التيجان، ٢٤٦ – ٢٤٧. على الهامش: واستخدام الأسطورة أو المفارقة التاريخية هنا هو محاولة من قبلهم لمعرفة أوجه التشابه بين خط المسند الكتابة الصغدية المشتقة من الآرامية.

[9] كتاب الملوك، ١/٢٦٢ – ٢٦٥. الدينوري، الأخبار الطوال، ٢٧.

[10] التيجان، ٢٤٧.

[11] ابن الفقيه الهمذاني، البلدان، ٦٢٥.

[12] الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ٤/١٧٢ – ١٧٣.

[13] أبو زيد السيرافي، من أخبار الصين والهند،٧٢. ونقلها عنه المسعودي عندما التقى أبا زيد السيرافي. المسعودي، مروج الذهب، ١/١٦١ – ١٦٢.

[14] أبو زيد السيرافي، من أخبار الصين والهند، ٧٢ – ٧٣. المسعودي، مروج الذهب، ١/١٦٢ – ١٦٣.

[15] رحلات أبي دلف، ٢٣٦ – ٢٣٧.

[16] الذخائر والتحف، ١٤٨.

[17] الجوهرانية (essentialism) تعني أن جوهر أو أسس الشيء منذ ظهوره ثابته لا تتغير بتغير الزمان والمكان.

[18] On-cho Ng and Q. Edward Wang, Mirroring the Past The Writing and Use of History in Imperial China.

[19] ريمون آرون، فلسفة التاريخ النقدية، ٢١.

[20] Reinhart Koselleck, Future Past: on the Semantics of Historical Time.